كانت بداية الألفية الثالثة تتويجا لجهود الدول الأوروبية على مدار قرابة ٥٠ عاما، حيث تم الانتقال من مرحلة السوق الأوروبية إلى مرحلة الاتحاد الأوروبي، وإصدار عملتها الموحدة "اليورو"، وظلت التجربة محل إشادة ودعوة لباقي الكيانات الإقليمية لتستفيد من التجربة.
ولكن تأتي الأزمات لتختبر تجربة الاتحاد الأوروبي، وكانت التجربة الأولى في نهاية العقد الأول من القرن ٢١، حيث ألمت الأزمة المالية العالمية بالدول الأوروبية، وتراكمت الديون على بعضها، وخاصة في اليونان، التي عاشت أزمة مالية طاحنة استمرت أكثر من 5 سنوات.
ووقتها ذهبت التوقعات باحتمال تخلي الاتحاد الأوروبي عن الدول الضعيفة اقتصاديا، والتي تعاني من أزمة مديونية وعجز بالموازنات العامة، ولكن الاتحاد الأوروبي خالف هذه التوقعات، وأنشأ ما سمي بـ "صندوق الإنقاذ"، الذي بلغ رأس ماله ما يقارب نصف مليار يورو، لتقديم القروض بسعر فائدة منخفض، لمساعدة الدول التي تعاني من ارتفاع مديونياتها العامة.
وواقع الأمر أن العديد من الدول الأوروبية استفادت من صندوق الإنقاذ، حتى أن اليونان التي كانت مهددة بإعلان إفلاسها، لعجزها عن سداد التزاماتها من الديون الخارجية، ودعت أزمتها المالية عام 2018.
مع بداية تسارع انتشار فيروس كورونا خلال الربع الأول من 2020، شهدت الدول الأوروبية حالة من الهلع، حيث كانت معدلات الإصابة في الدول الأوروبية هي الأكبر من بين دول العالم، في كل من إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، ومع ذلك لم يكن تعامل الاتحاد الأوروبي ككيان إقليمي مع الحدث على المستوى المطلوب أو المأمول.
ودفع ذلك العديد من الكُتاب ليتوقع أن تكون أزمة كورونا أحد أسباب انهيار تجربة الاتحاد الأوروبي، وبخاصة في ظل سلوك بعض المواطنين في إيطاليا الذين قاموا بحرق علم الاتحاد الأوروبي وإزالته عن بعض المباني، وذلك مع بداية تدفق المساعدات الطبية الصينية إلى إيطاليا.
وكان من أبرز ما كشفت عنه جائحة كورونا ضعف نظام التأمين الصحي في دول الاتحاد الأوروبي، حيث عجزت المؤسسات الصحية عن مواجهة الأزمة بصورة تحافظ على الثروة البشرية، بينما دول أخرى مثل الصين استطاعت أن تسيطر على الأزمة وتتجاوزها من الناحية الطبية، بل استطاعت أن تقدم مساعداتها من المستلزمات الطبية لدول أوروبية.
وساعد على إيمان البعض بتوقعاته بانهيار الاتحاد الأوروبي الحسم البريطاني بالخروج من الاتحاد، والبدء في ترتيب أوضاع بريطانيا الاقتصادية والمالية في ضوء واقع جديد، لتصنع علاقات اقتصادية ومالية منفردة مع العديد من الدول.
وكذلك فإن التحليلات التي ترى أن عالم ما بعد كورونا مختلف عما قبلها، ذهبت إلى زيادة احتمالات تفكك الاتحاد الأوروبي، وخاصة في ظل إثارة العديد من القضايا المهمة على الصعيد العالمي، مثل الحرب التجارية، وضرورة وجود نظام اقتصادي ومالي عالمي جديد.
على عكس العديد من أقاليم العالم المختلفة، تمثل الحالة الأوروبية أداء متميزا من بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تبلورت جهود الدول الأوروبية للوصول إلى حلول للمشكلات، ولا يسمح لها بأن تكون سببا في الفرقة، لذلك كانت أوروبا أكثر تماسكا أمام التحديات التي فرضتها اقتصاديات العولمة، منذ بداية التسعينيات وحتى بداية الأزمة المالية العالمية عام 2008.
وتجلت هذه الخبرة، كذلك في التعامل مع والصمود أمام التداعيات السلبية لجائحة كورونا، ولقد كانت الصورة الإعلامية التي تناولت ردود فعل بعض المواطنين، وتصريحات مسؤولين بدول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، توحي بأن تجربة الاتحاد قاب قوسين أو أدنى للوصول لمرحلة التفكك والانهيار.
ولكن خلال الأيام القليلة الماضية، خرج الاتحاد الأوروبي ليعلن اعتماد ميزانيته الجديدة إضافة إلى مبلغ 750 مليار يورو لتكوين صندوق إنقاذ لمساعدة الدول التي تضررت من أزمة كورونا، لتمثل الخطوة حالة من الإدارة القائمة على المصالح المشتركة، فلا يُترك الضعيف لينهار وسط دول الاتحاد، ولا يأخذ أحد الأطراف، منح ومساعدات دون مقابل، ولكن قروض بمعدلات فائدة منخفضة، أو منح ومساعدات مشروطة.
وحسبما نُشر من تفاصيل تخصيص مبلغ 750 مليار يورو لمكافحة الآثار السلبية لكورونا، فإن الجزء الأكبر منه سيكون منحا مشروطة، بنحو 500 مليار يورو، وبينما يخصص مبلغ 250 مليارا كقروض، وتركز خطة الصندوق على الاهتمام بمشروعات الرعاية الصحية ودعم التعافي الاقتصادي.
لم يكن أمر التوصل إلى هذه الخطة بإنشاء صندوق إنقاذ بالأمر السهل، فالمفاوضات بين دول الاتحاد الأوروبي حول هذه الخطة مستمرة منذ مارس/آذار 2020، وكانت هناك معارضة شديدة بين كل من فرنسا وإيطاليا من جهة، وألمانيا وبلجيكا من جهة أخرى، حول كيفية تمويل هذا الصندوق.
رُفضت اقتراحات فرنسا وإيطاليا بشأن إمكانية إصدار سندات مشتركة باسم الاتحاد الأوروبي، وأقرت فكرة التمويل الجماعي لاحتياجات الصندوق على أن تتحمل كل دولة مسؤولية ما تحصل عليه من تمويل، وهنا تظهر المسؤولية في إدارة الأزمات.
حيث تم تجنيب العاطفة، كما حدث في الأزمة المالية لأوروبا عام 2010، نعم توجد أزمة، ولكن معالجتها يجب ألا تكون لحساب طرف على مصالح طرف آخر، فأموال كل دولة التي تدفعها كحصة في صندوق الإنقاذ هي أموال دافعي الضرائب، وتُسأل كل حكومة أمام شعبها عن كيفية التصرف في أموال الضرائب، وبالتالي من يحصل على تمويل في شكل منح أو قروض يقدم خطته للإنقاذ ويكون مسؤولا عن تحقيق النتائج الإيجابية، وكذلك الوفاء بسداد ما حصل عليه من أموال.
لن تكون أزمة كورونا آخر الأزمات التي تواجه الاتحاد الأوروبي ككيان إقليمي، ولكن المهم طريقة التعامل مع الأزمات، وتقديم الحلول التي تساعد على بقاء الكيان قائما، بل وتؤدي إلى تقوية دوره، فالمصالح هنا هي المقدمة على العواطف.
فحزمة التمويل، في الأزمة المالية لأوروبا في 2010، وكذلك في أزمة كورونا 2020، لمست حاجة ماسة تحول دون انهيار اقتصاديات الدول التي تضربها الأزمات، وبالتالي يشعر الأعضاء بأن كيان الاتحاد الأوروبي بالفعل وجد لمصالح مشتركة، وليس فقط لصالح الكبار، أو لاستنزاف ثروات الصغار.
والأكثر أهمية في أمر بقاء الاتحاد الأوروبي، هو البعد الحضاري من ناحية، حيث تعتبر أوروبا نفسها ككيان حضاري واحد، وأنها تواجه تحديات حقيقية قد تنال من بقاء حضارتها، ولذلك فوجود الاتحاد الأوروبي يمثل ضرورة حضارية.
فضلا عن أهمية وجود اتحاد جامع يضم أوروبا في ظل الصراع القائم منذ عقدين من الزمن بين أميركا والصين، والمرشح للتصاعد خلال الفترة القادمة، كما أن تطلعات الدول الصاعدة في النظام العالمي ستكون بلا شك خصما من أحد الأطراف الكبرى، ولا يمكن لأوروبا أن تواجه هذا التحدي ودولها متفرقة، بل الأفضل أن تظل في كيان واحد.
لقد تعلمت أوروبا الدرس من تجاربها التاريخية السابقة للحرب العالمية الثانية، من أن المشكلات لا بد أن تحل، وأن تكلفة حلها في شكل جماعي أفضل من المواجهة الفردية لكل دولة على حدة، ولنتخيل الآن رد فعل الشارع الأوروبي على خطة الإنقاذ مقارنة برد فعله في بداية أزمة كورونا